الجمعة، كانون(۱)/ديسمبر 13، 2024

الصحافي الاقتصادي محمد زبيب: كيف نقرأ الخطة المطروحة على مجلس الوزراء؟

  محمد زبيب
لبنان
يجدر عدم الانسياق إلى محاولات حصر الحديث كلّه بما يسمى " haircut" او "قصّة الشعر" التي ستلحق الودائع. ليس لأن هذا الأمر غير مهم او يمكن تجاوزه، بل لأنه ليس الامر المهم الوحيد. فالخطة المطروحة على مجلس الوزراء تخبرنا إننا مقبلون على أيام أكثر قتامة مما مضى، وليس واضحاً كيف سنتجاوزها.



نحن الآن في خضم صراع قاس على توزيع خسائر تراكمت في السابق وخسائر ستتراكم لاحقا، وميزان القوى لا يزال مائلا بصورة حاسمة لمصلحة الأوليغارشية. وهذا ما يجب أن نركّز عليه ونناضل لتغييره. امّا الوصفات التقنية فتصبح مجرد وسائل للوصول إلى الهدف.

باختصار، تدعونا هذه الخطة إلى تحمّل المزيد من الالام في السنوات الخمس المقبلة، والقبول بمستوى معيشي أدني بكثير مما نعيشه الآن، على امل ان نخرج بعدها من الازمة الطاحنة، ولكنها لا توضح لنا بصورة وافية إلى اين سنخرج: أي دولة واي مجتمع واي اقتصاد واي علاقات مع الخارج؟

الأهم، ان الخطة المطروحة لا تجزم اننا سنخرج سالمين في النهاية، لانها ترهن ذلك بتنفيذ جملة واسعة من الشروط الصعبة، التي ستزيد التوترات السياسية والاجتماعية والضغوط الاقتصادية والمالية والنقدية، وقد تساهم بانفجار المزيد من الازمات والصراعات، وقد تؤدي (ربما) إلى المزيد من تراكم وسائل القسر والاستغلال وتمركزها.

1- الشرط الاول في الخطة المطروحة، هو تصفية الخسائر المتراكمة على مدى ربع القرن الماضي. وتمثّل هذه الخطة اول اقرار رسمي بحجم الخسائر الضخمة المحققة في الجهاز المصرفي، إلّا انها تكتفي بتقدير الخسائر المحاسبية بالعملات الاجنبية، التي بلغت نحو 83.2 مليار دولار حتى اذار 2020، وتطرح شطب الجزء الاكبر من هذه الخسائر دفتريا من ميزانيات الحكومة ومصرف لبنان والمصارف، وتوزيعها على الجميع، بما في ذلك المودعين واصحاب المصارف وليس بينهم حصرًا.

2- الشرط الثاني في هذه الخطة، هو التقشّف الشديد في الموازنة العامّة، عبر تخفيض الانفاق العام، بما في ذلك فاتورة الاجور ومعاشات التقاعد وخدمة الدين العام، واستبدال الانفاق الاستثماري العام بالخصخصة والشراكات مع المستثمرين من القطاع الخاص، وزيادة الايرادات الضريبية من الدخل والاستهلاك والسعي إلى الحد من التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي واستعادة بعض الاموال المنهوبة (من دون توضيح الاليات). والهدف هو تخفيض الدين الحكومي من 175.6% من مجمل الناتج المحلي المقدر في 2019 إلى 91.9% في هذا العام، اي من 90.2 مليار دولار إلى 31.5 مليار دولار، اي سيتم شطب 58.7 مليار دولار من هذا الدين دفعة واحدة، من ضمنها ما لا يقل عن 20 مليار دولار من الدين بالعملات الاجنبية.

3- الشرط الثالث، هو تخفيض سعر صرف الليرة الرسمي، والانتقال من نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف العائم المضبوط. الا ان الخطة ترى ان هذه التعديل يجب ان تسبقه عمليات اعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي (مصرف لبنان والمصارف). وتتوقع الخطة تخفيض سعر الليرة الرسمي تدريجيا إلى 3 الاف ليرة في عام 2024، اي سيجري رفع سعر الدولار بنسبة 100%.

4- الشرط الرابع، هو الحصول على تمويل خارجي بالعملات الاجنبية بقيمة تراكمية تصل إلى 27.3 مليار دولار بين 2020 و2024، اي بمعدّل وسطي يبلغ 5.5 مليار دولار سنويا. وترى الخطة ان الخيار الوحيد المتاح الآن هو طلب تدخّل صندوق النقد الدولي (او اي ترتيب مماثل) والحصول على التمويل المقرر في "سيدر"، وتقدّر الخطة الا تتجاوز قيمة التمويل الذي ستحصل عليه الحكومة من صندوق النقد الدولي و"سيدر" مستوى 10 إلى 15 مليار دولار، ما يُبقي فجوة كبيرة يتوجب التفتيش عن السبل لردمها.

تجزم الخطة المطروحة ان خروج لبنان من الأزمة العميقة غير ممكن من دون دعم خارجي. وبالتالي "من غير الواقعي الاعتقاد بأن اتجاه تدفقات الودائع سوف ينعكس وأن الأسواق الدولية ستفتح من جديد للبنان، على الرغم من أزمة كوفيد 19"، وهذا يعني ان القيود المفروضة على الحسابات المصرفية والتحويلات إلى الخارج والاستيراد ستستمر لفترة طويلة، وسيتم قوننتها بطريقة او بأخرى.

في حال تحققت كل هذه الشروط وحصل توافق داخلي وخارجي يسمح بتطبيق الاجراءات المقترحة، ستكون النتائج على مدى السنوات الخمس المقبلة (التي تغطيها الخطة) على الشكل التالي:

• انكماش اقتصادي، متواصل منذ 2018 (-1.9%)، تعمّق اكثر في 2019 (-6.9%)، ويُتوقع ان يصل في هذا العام إلى -14% و-7% في العام المقبل، وسيستمر الانكماش حتى عام 2023. لينخفض مجمل الناتج المحلي مقوّما بالدولار من 55 مليار دولار في 2018 إلى 29.3 مليار دولار في 2023، اي اننا سنخسر نصف الدخل تقريبا، وهذا ينطوي على تحوّل اجتماعي جارف.

• تضخم بنسبة تتجاوز 25% في هذا العام، و12.6% في العام المقبل. وسيبلغ 58.3% كمجموع تراكمي بين 2020 و2024، اي ان الدخل بالليرة سيخسر أكثر من نصف قيمته الشرائية، وهذا نوع من الضريبة غير المباشرة وغير العادلة.

الدخل سيتقلص أكثر والاسعار سترتفع اكثر. سترتفع البطالة وتنخفض الاجور وتتآكل القدرة الشرائية للمداخيل بالليرة، وهو ما يُفترض ان يدفع المسالة الاجتماعية إلى الامام لا إلى الخلف، ولا سيما ان الخطة تستند إلى تقديرات تفيد ان 48% من السكان هم فقراء اليوم، ولكنها لا تقدّم اي تقديرات عن تأثير هذه الشروط والاجراءات على ارتفاع مستويات الفقر، كما لا تقدّم اي تقديرات عن مستويات البطالة والهجرة، وبالتالي تتعامل هذه الخطة مع الاثار الاجتماعية التي تتوقعها كعوارض جانبية يتوجب العمل على لملمتها عبر برامج تدخّل تحت عنوان "دعم الفئات الاكثر فقرا"، وهو عنوان مخادع.

علينا ان نتحلى بالحذر الشديد ازاء السجالات وردود الافعال التي اعقبت تسريب خطّة الحكومة، فالتهييج ضد "قصة الشعر" فقط وادعاء الدفاع عن المودعين ليس الا الستار الذي يخفي هؤلاء مآربهم الحقيقية خلفه، فهم لا يستطيعون بعد الآن مواصلة انكار الخسائر المحققة، وهم يعلمون ان هناك من يجب ان يسدد هذه الخسائر، ولذلك هم يقولون بوضوح ان هذه الخسائر يجب ان تتحملها الدولة لا اصحاب المصارف وكبار المودعين الذين تسببوا بها، وكأن الدولة هي كيان منفصل عن المجتمع، ويطرحون اطفاء هذه الخسائر عبر اوسع عملية نهب جديدة، تقوم على مبادلة الودائع الكبيرة بممتلكات عامّة، ولا سيما العقارات والمؤسسات العامة والشركات المملوكة من الدولة.

للتوضيح، تقدّر الخطة صافي الخسائر بالعملات الاجنبية فقط في الجهاز المصرفي بنحو 83.2 مليار دولار. تعتبر هذه الخطة ان اصحاب المصارف (حملة الاسهم) عليهم ان يتحمّلوا 20.8 مليار دولار من هذه الخسائر (تمثلّ قيمة رساميل المصارف)، اي ربع الخسائر، ويبقى 62.4 مليار دولار تحتاج إلى معالجة.

تقترح الخطة ان يبقى جزء من هذه الخسائر مسجلا في ميزانية مصرف لبنان على ان يعمد إلى اطفائها عبر ايراداته المستقبلة، ولكنها لا تحدد قيمة هذا الجزء ولا شروطه، وبذلك لم تحدد قيمة الجزء الآخر التي تريد اقتطاعه من الودائع.

تقدّم الخطة اقتراحات تصبّ كلّها في خانة "قصة الشعر"، مع التزام بتحييد كل الحسابات المصرفية تحت 100 ألف دولار، اي ان الاقتطاع مهما كان شكله او معدلاته لن يصيب هذه الفئة، وبالتالي ستكون الفئات الاخرى على اختلافها معرّضة لشكل من اشكال الاقتطاع، وهذا غير عادل ابدا. وتضع الخطة نفسها سيناريوهات تنطوي على انشاء صندوق لتعويض المودعين لاحقاً، أو إغراء المودعين الكبار (اصحاب الودائع فوق المليون دولار) بالتحوّل إلى مساهمين لإشراكهم في انقاذ مصارفهم وبالتالي انقاذ اجزاء من ودائعهم.

ترفض الخطة المطروحة رفضا قاطعا انقاذ المصارف بالمال العام، وهذا امر جيّد، كما تقترح تحميل اصحاب المصارف خسارة كل رساميلهم لتغطية ربع الخسائر الدفترية المسجلة في مصارفهم، وهذا ايضا امر جيد ولكنه غير كاف نظرا لحجم الارباح السخية التي تحققت طيلة الفترة السابقة من نهب المال العام، كذلك تسعى هذه الخطة إلى تخفيض حجم البنك المركزي والقطاع المصرفي والمديونية العامة، وهذه الامور هي محور اعتراض اطراف من الأوليغارشية وهجومها المتواصل، الا ان الامور السيئة تكمن في كيفية توزيع الخسائر الباقية، وهي الاكبر والاشد وطأة، اذ سيتحملها المجتمع كله، ولا سيما الطبقات الوسطى والطبقة العاملة، في حين ان هناك فرصة جدّية اليوم للانطلاق من هذه الخسائر والالام التي تفرضها لإحداث تغيير بنيوي في الدولة والاقتصاد السياسي، والمدخل إلى ذلك فرض ضريبة استثنائية تصاعدية على كل الثروة وراس المال، بهدف اعادة توزيع الثروة المكتسبة سابقا كآلية من آليات استرداد الاموال المنهوبة والموهوبة واطفاء الخسائر المتراكمة وتأمين ذخيرة مطلوبة لزيادة انتاجية الاقتصاد اللبناني وتأمين الحماية الاجتماعية والخدمات الاساسية والحد من الفقر والبطالة والهجرة.

طبعاً، الضريبة الاستثنائية التصاعدية ليست الحل السحري، ولكنها أكثر عدالة من أشكال "قص الشعر" الاخرى، فالخروج من الازمة غير ممكن من دون مشروع سياسي واسع وجذري، وهذا يحتاج إلى بحث أكثر تفصيلاً. امّا ما ورد اعلاه فهي ملاحظات وشروخ أولية للمساهمة في النقاش الدائر.

المصدر: الصفحة الرسمية للصحافي الاقتصادي محمد زبيب عبر موقع الفيسبوك.