الأربعاء، كانون(۱)/ديسمبر 11، 2024

وهج مهدي عامل في المؤتمر الـ ١٢ للحزب الشيوعي اللبناني

أخبار الحزب
يستعدّ الحزب الشيوعي اللبناني – الحركة الثورية التحررية العريقة – لعقد مؤتمره الثاني عشر في مرحلة معقدّة من تطوّر العالم ومنطقتنا العربية، وهو منخرط، الى جانب قطاعات شعبية واسعة، في مواجهة مع التحالف الطبقي المسيطر. انطلقت المواجهة (الانتفاضة) على إثر انهيار اقتصادي- اجتماعي جاء نتيجة منطقية لممارسات احتيالية واستغلالية مارستها سلطات الطائف. وهذا الانهيار أثّر لبعد أعمق في بنية النظام استندت إليه هذه الممارسات، يتمثل في طبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية التي فُرضت على لبنان منذ إنشائه وعمّقت أزماته كما هو الحال راهناً.

كان الحزب الشيوعي سبّاقاً إلى المواجهة مع النظام طيلة السنوات التي أعقبت اتفاق الطائف اذ طرح وحذّر من نتائج هذا التطوّر المشوّه، وجاء ذلك بشكل خاص في وثيقة المؤتمر الثامن الذي عالج فيها ظاهرة الحريرية. وتشهد شوارع لبنان على الحضور الدائم للحزب وجماهيره في سبيل تحفيز اللبنانيين على التصدّي للمخاطر.

والآن عشية المؤتمر الثاني عشر يتذكّر الشيوعيون، في هذا المناخ الثوري، المقولة اللينينية المبدعة: لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية. مقولة أنتجها قائد ثورة أكتوبر في سياق ممارسته الثورية، ومفادها أن الممارسة الثورية لا تكون كذلك إلاّ إذا استندت الى نظرية ثورية. فالطابع الثوري للممارسة يكمن في فعاليتها والفعالية لا تتحقق إلاّ إذا استندت الممارسة الثورية إلى معرفة بالواقع المنوي تغييره. أما الطابع الثوري للنظرية فهو أن تكون معرفة علمية بقوانين التطوّر التاريخي للبنية الاجتماعية. باختصار، على ثورتنا أن تعتمد على العلم – علم التاريخ (التفسير والفهم المادي للتاريخ) وعلم الثورة (الصراع الطبقي). لكن النظرية ومهما علا شأن مستواها المعرفي فهي لا تنتج ثورة. فمن أجل أن تسهم في إنتاج الثورة ينبغي أن تتجسّد في النضال الثوري: في برنامج وممارسة وتنظيم. فهذا النضال هو معيار صحتها كما أن النظرية قاعدة ثورية لهذا النضال. إذن، على النظرية أن تصبح سلاحاً فعّالاً بيدِ الجماهير وأن تدخل في وعيها.

ونظريتنا الثورية هي الماركسية- اللينينية كمنظومة فكرية مفتوحة على التطوّر مع تطوّر الواقع الذي تعكسه. لها طابع كوني لأنها نظرية الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية. ننهل من الماركسية الفهم (التفسير) المادي للتاريخ ونظرية الثورة والاقتصاد السياسي والديالكتيك المادي. يعني هي رؤيتنا للطبيعة والمجتمع والتفكير، بنشوئها وتطوّرها وتحوّلاتها. الماركسية – تراث فكري ونظري لماركس وآنجلس تجسّد في منهج تفكير وبحث وبرنامج سياسي للتغيير وأدوات نضالية في القرن التاسع عشر وتضمن نبوءات ما زالت فاعلة في القرن الواحد والعشرين. وتُوّج هذا التراث في خلاصة عن حتمية إنهيار الرأسمالية كحقبة تاريخية عابرة والانتقال إلى الاشتراكية عبر ثورة يفرضها تفاقم التناقض الأساسي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. ولأن البلدان الرأسمالية في القرن التاسع عشر كانت على مستوى واحد من التطوّر الرأسمالي ونضج المشاكل، افترض ماركس أن الثورة الاشتراكية ستحدث في هذه البلدان مجتمعة أو في البلدان الأساسية منها في وقت واحد.

ومع أن الرأسمالية تطوّرت بالسيناريو الذي رسمه ماركس لم تحدث الثورة لأسباب عديدة لا مجال لتناولها في هذه المقالة. تابعت الرأسمالية تطوّرها وتكيّفها مع الظروف المستجدة ودخلت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر طور الإمبريالية أي الرأسمالية الاحتكارية، فأنتجت تطوّراً متفاوتاً بين بلدان العالم خلقت به تمايزاً في التطوّر الرأسمالي في هذه البلدان وانقسم العالم إلى بُنيتين هما البنية الإمبريالية المسيطرة والبنية الرأسمالية التبعية التابعة للإمبريالية. درس لينين هذا الطور الجديد من الرأسمالية بمنهجية ماركس في كتاب "رأس المال" مستفيداُ من دراسات عديدة ومبدعة عن الإمبريالية وخلص لتحديد مواصفاتها وموقعها التاريخي في تطوّر الرأسمالية وحدّدها عشية الثورة الاشتراكية. وخلص في دراسته إلى كشف آثار فعل قانون التطوّر المتفاوت واستنتاجه إمكانية انتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد أو عدة بلدان. وبالفعل فقد نظّمَ وقاد أوّل ثورة اشتراكية في التاريخ لكن ليس وفق تنبؤات وفرضيات ماركس في "رأس المال".

ما يهمنا في هذا الموضوع والعجالة هو التركيز على جوهر الإسهام اللينيني النظري في تطوير الماركسية المتمثّل في اكتشاف ضرورة تمييز الماركسية وقوانينها في الزمان والمكان، أي إظهار الشكل الذي تعكس فيه الماركسية الواقع الموضوعي في البنية الاجتماعية المحدّدة والصيغ التي تأخذها الاستنتاجات والقوانين المكتشفة، ناهيك عن مساهمته في تطوير نظرية الثورة الاشتراكية وتنفيذها. وقد شهدت الماركسية ظهور مدارس وتيارات عديدة قدّمت إسهامات في تطوير هذه النظرية لا مجال لإيرادها هنا.

اليوم في القرن الواحد والعشرين تشهد الرأسمالية تطوّراً وتحوّلات تظهر فيها غير مشابهة ليس لرأسمالية المنافسة الحرة وإنما حتى لا تشبه الرأسمالية الاحتكارية للقرن العشرين. وهذه تغيرات تترك انعكاساتها على تطوّر العالم كله. وتشكّل هذه التغيرات مادة بحث وتحليل لدى العديد من الماركسيين تندرج نتائجها في تشكيل ماركسية القرن الواحد والعشرين أو ما يمكن تسميته ماركسية العولمة.
على هدى هذا التقليد الماركسي المبدع سار مهدي عامل، تقليد الإجتهاد في تمييز الماركسية – اللينينية وتوطينها في البنية الإجتماعية اللبنانية والعربية في مشروعه الفكري المبدع. فهو لم يكتف بالانتماء للماركسية وإعلانها نظرية ثورية صالحة في كلِّ زمان ومكان، لأن هذا الإعلان لا يشكل إضافة فكرية نضالية ولا تصير الماركسية كذلك بهذا الإعلان، بل قرر أن يبرهن على راهنية الماركسية [ أن يرهننها - أن يجعلها راهنة ] أي إبراز حقيقة قدرتها أن تكون أيديولوجيا التحرّر الوطني في بنية وبيئة تختلف عن البيئة التي ولدت فيها، وقرّر أن يميّزها في البنية الاجتماعية اللبنانية والعربية، أي أن يميّزها بتمييز الفهم ( التفسير ) المادي لواقعنا، بقراءة ماركسية لينينية تنطلق من الواقع الملموس وليس من الفكر المتشكّل لكن الموجود كخلفية. وقد وشى الواقع أن بنيتنا رأسمالية في الأساس. لكن النظر إليها لا يوحي بوجود آلية تطوّر ونتائج تشبه التطوّر الرأسمالي الكلاسيكي. فانكبَّ على دراسة هذه البنية حيث خرج بتشخيص لها يحدّد نوعية هذه الرأسمالية المتميزة عن المركز، وهي الرأسمالية التبعية، المتميزة بشكل نشوئها وتطورها وقوانين فعلها وطبقاتها وصراعاتها ووجد قيود حركتها لا بل انسداد أفق تطوّرها إلى رأسمالية كلاسيكية. وكان الاستنتاج المنطقي من هذا التشخيص وجود آلية متميزة للانتقال من هذه الرأسمالية الى الإشتراكية تختلف عن الثورة الاشتراكية الكلاسيكية. فكان هذا الاستنتاج تأكيداً على استحالة تطوّر بلادنا في إطار انخراطها في الدورة الرأسمالية العالمي من موقع تابع وأن الضرورة تقضي بتحرير بلادنا من التبعية بحركة تحرّر وطني تنجز عملية الانتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية.

من أجل القيام بهذه المَهمة الثورية كان عليه أن ينتج الأدوات الفكرية الضرورية، والمفاهيم التي تعكس الواقع وظواهره حيث عمل على اختبارها في أعماله المختلفة وبخاصة في الثلاثية الرائعة. وعاين مهدي واقع الصراع الطبقي في بلداننا العربية، وهو الصراع الذي يتّخذ شكل الصراع الوطني، فوجد أن حركة التحرّر الوطني العربية تعاني من أزمة هي أزمة قيادتها البرجوازية وأزمة البديل الثوري. هذه الأزمة هي انزياح التحرّر الوطني في مجراه التاريخي عن واقعه النظري. ففي الواقع النظري التحرّر الوطني عملية طويلة من الانعتاق من عوائق تطوّر شعوبنا المتمثّلة في سيطرة الإمبريالية على بلادنا عن طريق فرض نمط من علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية التي تحاصر بها تطور قوانا المنتجة، وبوجود أنظمة سياسية تحمي هذه العلاقات وتجدّد إنتاجها وبوجود الكيان الصهيوني حامي هذه التبعية وهذه الأنظمة وبسياسات الحصار والعقوبات والعدوان والاحتلال المباشر. وبذلك فالتحرّر الوطني عملية تحويل لعلاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية إلى علاقات إشتراكية، وهي إذن نضال للتحرّر من الرأسمالية التبعية والتحرّر من الإمبريالية، إنها صراع طبقي مع البرجوازية المحلية التابعة ومع البرجوازية الإمبريالية. ولأن السلطة الفعلية في هذه المنظومة هي السلطة الإمبريالية؛ فإن هذا الصراع الطبقي يتخذ شكل الصراع الوطني لإسقاط سلطة البرجوازية التبعية وسلطة البرجوازية الإمبريالية. لكنّ المجرى التاريخي للصراع التحرّري حمل في مرحلة أولى البرجوازية الكولونيالية (التابعة).. والبرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى في مرحلة لاحقة إلى قيادة هذه الحركة. وهو أمر يناقض منطق التحرّر الوطني إذ يستحيل على طبقة أو فئة، هي نتاج هذه العلاقات وصلت عبرها إلى قيادة الحركة، أن تسير بهذه العملية إلى نهايتها المنطقية. غير أن هذا لا ينفي وجود تناقضات بين هذه القيادة وبين الإمبريالية ولا يعني أن نضالها خارج عملية التحرّر لا بل إنه التحرّر بصيغته القومية المحدودة. لكن مصالحها وواقعها الطبقي دفعها لرفع لواء النضال ضد الإمبريالية للتخلّص من سيطرتها ورفضت الخوض أو السماح بخوض صراع داخلي ضدّ الرأسمالية بحجة عدم إضعاف الوحدة القومية في مواجهة العدوّ الخارجي. ومارست بذلك فصلاً بين التحرّر الإجتماعي والتحرّر القومي رافضةً الأوّل لصالح الثاني. من جهة أخرى، مارست الأحزاب الشيوعية موقفا مشابهاً من الفصل بين مكوّنيْ التحرّر الوطني متبنيةً التحرّر الإجتماعي وتاركةً التحرّر القومي للقوى القومية. إن هذه الأزمة ما زالت مستمرة في الظروف الجديدة باستمرار قيادتها لا باستمرار أزمة البديل الثوري. وقد رأى مهدي أن حلَّ هذه الأزمة لا يتحقّق إلاّ بانتقال القيادة إلى الطبقة العاملة صاحبة المصلحة في إنجاز هذه الثورة.

إنّ أفكار مهدي عامل تعكس التقليد الثوري الذي أرسته مؤتمرات الحزب الشيوعي الثاني والثالث والرابع وهي المؤتمرات التي رسمت الحزب كحركة تحرّر وطني. وجسّدت ممارسته اللاحقة هذا التقليد. لكن ظروفاُ صعبة خارجية وداخلية، موضوعية وذاتية أدخلت الحزب في أزمة ما زالت مستمرة. وعليه فإن إحدى مهمات المؤتمر المنتظر القيام بجهد لوضع الحزب على سكة الخروج من أزمته. ففي ذلك إسهام لحلّ أزمة التحرّر على الأقلّ في المجال اللبناني. وعليه يبرز سؤال ملّح: ماذا على حزب ثوري كالحزب الشيوعي اللبناني يعيش في بلد مأزوم ومحاصر ويستعّد لعقد مؤتمره أن ينتج...؟ وأسارع للقول إن عليه أن ينتج نظرية (رؤية) تحرّره. ولنا في تراث الحزب الفكري في تلك المؤتمرات وفكر قادته وبشكل خاص في فكر مهدي عامل "مرجعٌ موثوق".. لتطوير هذا التراث ولصياغة هذه الرؤية. وبما أن هذا التحرّر هو صيغة الصراع الطبقي في بلادنا ستكون هذه الرؤية نظريتنا في الصراع الطبقي وممارساته المختلفة. وإسهامنا هذا، إن تحقّقَ، هو تحويل للماركسية اللينينية إلى فكرٍ للتحرّر الوطني في بلادنا، ليس بإعلانها كذلك بل برهنتها.. أي بالبرهنة على قدرتها على الإحاطة بمشاكل بلادنا واختزانها الطاقة على إنتاج الأجوبة على أسئلة المرحلة ووضع حدٍّ للتشكيك بها، ليس بالإعلان عن التمسّك بها وإعلان راهنيتها، بل بإثباتها أيديولوجياً، النضال ضدّ الإمبريالية وأيديولوجيا التحرّر من الرأسمالية، وذلك بالصراع الطبقي للشيوعيين كمعيار وحيد لصحتها وراهنيتها. فراهنية القدرة التحليلية للواقع لا تحتاج لبرهنة، لكن راهنية البرنامج السياسي وسبل التغيير ماركسياُ في بلادنا ليست معطىً مسبقاً وانما معطى ينبغي إثباته. فلنتسلّح بوهج فكر مهدي عامل ونحن نتصدّى لهذه المَهمة.

وما هذا سوى تجديد المعرفة بواقع البنية الاجتماعية اللبنانية والعربية بقراءة مادية تاريخية لها، للتغيّرات التي طالت بنية علاقات الإنتاج التبعية والقوى المنتجة ولتناقضاتها والتناقض الرئيسي بشكل خاص. وفي هذا تصدٍّ لتحديات المأزق الذي دخلته البرجوازية العفنة وتقديم المقاربة العلمية لمعالجته. إن غياب هذه القراءة شجع الابتذال في تفسير الأزمة اللبنانية الأخيرة وشجع ذرّ الأوهام حول مقاربة الحلول. وقد واجه الحزب هذا الواقع برؤية معقولة تحتاج إلى تعميقها في ضوء توضيح جوانب هذه الأزمة. وفي هذا السياق سيكون مطلوباُ رسم استراتيجية التغيير التي سيعتمدها الحزب في نضالاته المقبلة، وهي في ضوء ما عرضنا من تَرِكةٍ فكرية، عملية تحرّر وطني تتمرحل بمهماتها وتحالفاتها ارتباطاً بوقائع الصراع الطبقي. ويمكن في هذا المجال تصوّر تمرحل لإنجاز هذه المهمة التاريخية يتضمن مراحل ثلاث تمليها وقائع البنية الاجتماعية اللبنانية ووضعية الطبقة العاملة، لكلّ مرحلة منها مهمة رئيسية: مرحلة أولى، يسعى الحزب فيها لتحرير الجماهير الشعبية من تبعيتها للأحزاب الطائفية وتحوّله إلى حزب جماهيري، ومرحلة بناء الحكم الوطني الديمقراطي التي تحقق عملية تغيير جزئي في علاقات الإنتاج وتبني القاعدة المادية للتطوّر المستقل وقطع التبعية، والمرحلة الثالثة، هي مرحلة تحقيق الاشتراكية. إنّ مضمون هذه الاستراتيجية يتمثل في تأهيل الطبقة العاملة وحزبها لقيادة هذه المهمة التاريخية ولبناء التحالفات الضرورية في كلّ مرحلة، إذ بدونها يستحيل تحقيق هذه المهمات.

في هذه المناسبة، ينبغي أن نتذكّر بأن برنامج الحزب قد بلغ من العمر ما يفوق نصف قرن وقد تغيرت الظروف المحلية والإقليمية والدولية على نحو تجاوزت فيه تطلعات الحزب وهو أمر يملي إعادة صياغة البرنامج بما في ذلك تجديد البرنامج الزراعي. فالبرنامج هو البوصلة التي يهتدي بها الشيوعيون. هذا تصوّر لما يمكن أن يقوم به الحزب في مؤتمره لإحياء تقليد المؤتمر الثاني ولاستعادة حيويته ووهجه بإعادة الاعتبار للعمل الفكري وللصراع الإيديولوجي وللتثقيف الحزبي. وقد تراجع الاهتمام بهذه الأمور في العقود الثلاثة الماضية ما انعكس سلباُ على ممارسة الحزب وفعالية نضالاته وعلى وحدته. من هنا تبرز أهمية المقولة اللينينية: "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية”، لأنّ غياب هذه النظرية يجعل حركتنا حركة "على بعل".

 

# موسومة تحت : :