حنا غريب: هكذا صرت شيوعياً ونقابياً
لا تُخفى البهجة على حنّا غريب، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني منذ المؤتمر 11 في 2016، حين يُسأل أو يعود إلى طفولته وشبابه الأوّل في رحبة العكاريّة. بل إنه يعود ذاك الطفل والفتى، ويتذكّر، وتبتعد عيناه وتغرقان، وكأنّه يرى أمه المكافحة التي “حرصت على تعليمنا”، ووالده الذي “لا يملك سوى بدلته العسكرية و85 ليرة معاشاً تقاعدياً”.
ولا غرابة في ذلك، ففي ذاك الزمن ولد حنّا غريب السياسي، وآنذاك، في تلك البقعة المهملة من لبنان، بدأ وعيه السياسي يتشكّل. ولا مبرر لنكران البراءة التي كانها ذاك الفتى الريفي الفقير على طرف الوطن. فتلك البراءة في اصطدامها مع الواقع وأحوال الأسرة والبلدة والمنطقة ولبنان وفلسطين والوطن العربي والعالم هي شرارة المواقف ومصادرها، إن لم تكن قيمها.
هكذا، أفضى به الفقر إلى الانحياز للمضطهدين والمعوزين والسير باكراً إلى “حزب الطبقة العاملة” (1973).
يروي: “حين مرض الوالد احتجنا إلى ألف ليرة لإخراجه من المستشفى. لم تنفع وساطة الوالدة لتوفير المبلغ من البيك”، فاستعان حنّا بمعلمه الشيوعي، إلياس برهون. ثم شاءت الظروف أن يكون برهون في طليعة الإضراب الذي نفذه المعلمون عام 1972 ونتج منه صرف 309 معلمين كان هو بينهم. راح حنّا يجمع التبرعات مع طلاب ثانويته في حلبا لدعم المعلمين المصروفين وردّ الجميل لأستاذه.
بعد ذلك، انصرف حنّا إلى المشاركة في حلقات تثقيفية ينظمها برهون في منزله في الضيعة. انخرط غريب في العمل السياسي والاجتماعي، وخصوصاً في نادي الضيعة الذي شهد فرزاً بين أبناء الضيعة الفقراء القاطنين فيها صيفَ شتاء، وأبناء المهاجرين وغالبيتهم من الأغنياء.
وإذ يرى ذاك الفتى العالم مقسوماً بين فقراء وأغنياء، وبين مضطهَدين ومضطهِدين، لم تقنعه المذهبية والطائفية صراعاً.
ويذكر كيف “صرنا نشارك في التحرّكات ونقطع طريق عكار- طرابلس وأمام الثانوية، فيما كانت النقاشات في الصف تصل إلى أوجها مع زملائنا من حزبي الوطنيين الأحرار والكتائب”.
ومن ثانوية حلبا إلى كلية التربية في بيروت، ليس محبة بممارسة مهنة التعليم، بل بسبب الواقع المعيشي للعائلة، وطُموحاً إلى الاستفادة من منحة الكليّة وقدرها 200 ليرة لبنانية شهريّاً. “لم أكن أملك من هذا المبلغ قرشاً واحداً. وضعت والدتي في جيبي خمسين ليرة، وكانت كل ما لدينا من أموال منقولة وغير منقولة (يضحك)، فاستأجرت بقيمة 25 ليرة منها سريراً في البسطا التحتا، وبقيت أدرس بما بقي لي، حتى فُرجت أخيراً ودخلت كلية التربية”. ناضلت في صفوف الحركة الطالبية والشبابية دفاعاً عن التعليم الرسمي وعن قضايا الجامعة اللبنانية من خلال اتحاد الشباب الديمقراطي ومنظمات الحزب وفروعه. “الجزء الأكبر من عملي في الحزب كان مع الناس”.
درّس في ثانوية صيدا للبنين، ثمّ انتقل إلى ثانوية الغبيري بعد الاجتياح الإسرائيلي (1982)، ثم اضطُرّ مع بعض الأساتذة للانتقال إلى ثانوية حوض الولاية “بسبب استباحة القوى الميليشيوية للمؤسسات التربوية”، ورمل الظريف. وأخيراً، إلى ثانوية وطى المصيطبة، عندما اشتد الضغط وبدأت سلسلة الاغتيالات لرموز الحزب الشيوعي.
من هذه الثانوية، كانت انطلاقة متابعة شؤون المعلمين، عبر تولي مسؤولية قطاعهم في الحزب. هذا القطاع الذي يعود الفضل الأول والأكبر في إنتاج استراتيجية العمل النقابية وسياسة الحزب التربوية وتحت قيادته كنا ننفذ خطتنا .
كانت رابطة أساتذة التعليم الثانوي آنذاك منقسمةً إلى اللجنة التنفيذية في ما يُسمى “الشرقية”، ولجنة اتصال عليا في المناطق الثانية “التي كنا نسميها وطنية”. ويتابع: “عملتُ في البداية مندوباً للأساتذة، ثم تدرّجت لأكون عضواً في لجنة الاتصال العليا، ثم عضواً في الرابطة، وصرنا ننظم انتخابات كل سنتين لم تنقطع طوال فترة الحرب”.
بعد اتفاق الطائف، أصبح أمين سر لجنة الاتصال العليا. وفيما كان البلد يحاول أن ينهض من بين الركام، وجد النقابيون لزاماً عليهم أن يوحّدوا جسمي الرابطة وسائر الروابط الأخرى في القطاع العام إضافة إلى تأسيس روابط حيث لا توجد. هكذا انطلقت معركة توحيد رابطة الثانوي في عام 1991 وتوحيد روابط المعلمين في التعليم الاساسي الرسمي، وفي تأسيس رابطة الأساتذة في التعليم المهني والتقني ورابطة الموظفين الإداريين في وزارات الدولة ومؤسساتها العامة، ومعها تأسيس مكتب المعلمين في لبنان وهيئة التنسيق النقابية التي اقتصرت مكوناتها على روابط موظفي القطاع العام ونقابة المعلمين في القطاع الخاص، بعدما كانت هذه الهيئة تضم رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية والاتحاد العمالي العام الذي تآمرت السلطة عليه وصادرت قراره فكان خارج الهيئة. وعلى هذا النهج كانت مسيرة 30 سنة في العمل النقابي تحققت فيها مطالب وخيضت معارك قاسية، من أبرز صفحاتها التظاهرات الحاشدة لهيئة التنسيق النقابية ضد إجراءات مؤتمرات باريس وسلسلة الرتب والرواتب.