الجمعة، كانون(۱)/ديسمبر 13، 2024

مئوية لبنان الكبير وقضية الوطن والدولة

رأي
بعد مئة عام على تأسيس لبنان الكبير، وصل لبنان الي وضع مأزقي يواجه خطر التفكك والتحلّل، أو كما قال وزير خارجية فرنسا، خطر الزوال. فبعد هذه التجربة الطويلة، لا يزال لبنان أقرب الى طفل يحبو، ويحتاج الى تعلم المشي وحده. والتساؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو هل ان لبنان الكبير هو مولود عجيب، يفتقد الى مقومات إنشاء دولة ووطن؟


وهل أنه خارج قانون التقدم والتطور والتغيير، الذي يسود المجتمعات؟ بالطبع كلا... فالعلة ليست بلبنان وطبيعته الجميلة، وتميّز شعبه بالإنفتاح وحب الحرية والحياة، وإنما بقبح نظامه السياسي المؤسّس على الخلل، وبعجز وفشل طبقته السياسية السلطوية التي تمسكت وتتمسك باسنانها بنظام طلئفي جرى تفصيله على قياس مصالحها هي ... لذلك لم نصل بعد مائة سنة، الى اقامة دولة حديثة متماسكة، ووطن يشعر الجميع بالانتماء اليه.
فالخلل البنيوي مرتبط بتركيب نظام سياسي طائفي، على قاعدة ان اللبنانيين هم رعايا طوائف ومذاهب، لكل مجموعة ـ طائفة منهم، ميزاتها وتمثيلها الخاص بها.
وقد عكسوا هذا المفهوم في بنية الدولة وسلطتها. وهذا ما حوّل التنافس بين زعماء الطوائف في السلطة، من الالتزام بحقوق الشعب الاجتماعية والوطنية، الى المواقع والحصص والمنافع المتعلقة بكل منهم، وابقى لبنان غارقاً في انقسامات وصراعات طائفية وهزات وحروب اهلية، واقام الفواصل والحذر بدلاً من الجسور بين ابنائه. فتحولت بذلك موضوعة لبنان التعدد بالمعنى الطوائفي، أو لبنان الوطن والرسالة، الى فشل ومثال سلبي فاقع، عكس ما يجب ان يكون. وقد اتاح هذا النظام بتناقضاته وطبيعته الطائفية، الى استقواء زعيم كل طائفة، بمرجعية او دولة خارجية، على شريكه الداخلي. فتحوّل لبنان الى ساحة صراعات لتداخل العوامل الخارجية والداخلية. ونجم عن الارتباط العضوي لهذا النظام الطائفي بالكيان، إبقاء الكيان مهدداً بالتضعضع والتفكك، مع تزايد فشل واهتراء النظام، ووجود مخطط تفتيت الكيانات العربية المحيطة باسرئيل.
لقد أدّى هذا الخلل البنيوي والسياسات السلطوية، الى اضعاف وجود الدولة والسلطة ودورها، ليقوّي دور الزعامات الطائفية، كل في قبيلته. ليصبح الانتماء للطائفة فوق الانتماء للوطن. وقد أسهم بذلك عدم وجود كتاب تاريخ وطني موحد للبنان، ومنهاج تربوي ومدني سليم ومعمم، ينشئ مواطنين بدلاً من رعايا طوائف. كما أدّى إحجام الدولة عن اعتماد سياسة إنمائية ثابتة وشاملة لتقليص الهوة بين المناطق خصوصاً التي جرى ضمها في اعلان لبنان الكبير، الى استمرار فوارق كبيرة وفقر وحرمان موروث من زمن السلطة العثمانية. وكذلك الامر بالنسبة الى التفاوت الاجتماعي ـ الطبقي. في حين أن السلطة وسياساتها، كانت خادمة لتعاظم ثروات وأرباح الأوليغارشية المتربعة على عرش سلطة الاحتكار والمال وشركائها في سلطة الدولة. فلم يتعظ أهل هذا النظام، خصوصاً الفئة العليا الجشعة من البرجوازية، من دروس بعثة ايرفد التي استقدمها الرئيس فؤاد شهاب، والتي أعلنت خلاصاتها عام 1963، ان الخلل الكبير هو في التفاوت بين المناطق وبين الطبقات الاجتماعية، كما لم تقدم السلطة على إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية، يزيل العوامل والحواجز المعيقة للاندماج المجتمعي فاستمروا بسياساتهم نفسها التي فاقمت هذا الخلل الذي احدث خضات شعبية تصل الى حروب محلية. فكانوا يلجأون في كل مرة، الى وساطات ووصايات خارجية، رغم الإكثار من ادَعائهم الكاذب بالتمسك بالسيادة والاستقلال، لصنع تسويات مؤقتة بينهم، لإطالة عمر نظامهم وسلطتهم، وبما يخدم مصالح الوسيط أو الوصي الخارجية. ولا يخرج الدور الفرنسي تاريخياً، واليوم مع الرئيس مانويل ماكرون عن الغرض نفسه مع بعض التجميل والترقيع، مراعاة لإنتفاضة 17 تشرين، ولاستحالة تجاهل الغضب الشعبي الكبير، وفقدان ثقة الناس بالمنظومة السلطوية. ولا ينفصل هذا الدور الفرنسي عن مطامح فرنسا في اطار الصراعات والتطورات في المنطقة. وبالنسبة للسلطويين ونظامهم فقد اعتادوا على نمط التبعية للخارج، وصولاً الى الرضوخ لخارطة طريق ماكرون وتسميته الرئيس المكلف تشكيل حكومة. فهمهم الاساسي الدائم، استمرار سلطتهم وفسادهم. وهذا ما أدّى الى الاهمال واللامسؤولية واللادولة، إلاّ في قمع الشعب. مما اوجد نكبات وكوارث، كان انفجار المرفأ بينها الاشد هولاً وتدميراً للبشر والحجر. وليس مقنعاً قول مسؤولين كبار أنهم لم يعرفوا بوجود المادة المتفجرة في المرفأ، وسعيهم لحصر المحاسبة بالصغار...
لكن في هذا المشهد القائم توجد علامات مضيئة، أبرزها، معركة نيل الاستقلال... دور المقاومة الوطنية ثم الاسلامية في مقاومة الاحتلال الصهيوني وتحرير الارض. وانتفاضة 17 تشرين، التي عزّزت آمال شعبنا بإمكانية التغيير. فطالما بقي النظام الطائفي الفاسد، ستبقى الأزمات والفساد وعدم المحاسبة. وتبقى ايضاً الانتفاضة، حتى اسقاط المتحكمين بمصير الشعب والبلاد. وليس موضوع الحياد الذي يطرحه البعض اليوم، حلاً او مخرجاً للوضع اللبناني. بل يخلق المزيد من الانقسامات. فالحل هو بالتغيير.. باقامة دولة ديمقراطية علمانية، قادرة على حماية لبنان من عدوانية ومطامع اسرائيل... دولة انماء وعدالة اجتماعية. تواكب التطور وتلبّي حاجات الشعب فالدساتير والأنظمة هي للشعب وخدمته، وليس العكس.

المصدر: مجلة النداء